بقلم د. حاتم بن جميع، دكتور باحث في الآداب الانقليزية،
مقال نشر في العدد الخامس، جويلية 2024 من مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي
يتبوأ البحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية مكانة هامة في الجامعات الغربية. إذ تحتضن الجامعات الأوروبية عشرات مخابر البحث التي تهتم كليا أو جزئيا بهذا المبحث العلمي والتي تبحث في مواضيع أدبية وفي قضايا حضارية في علاقة بالسياق الانقليزي والامريكي والعالم الناطق بالانقليزية (الانقلوفوني) عموما. وتستقطب هذه المخابر سنويا عشرات الباحثين الأوربيين والأجانب في أُطر متنوعة على غرار “عقود بحث ما بعد الدكتوراه”. ويعود الاهتمام بهذا المبحث لعدة أسباب لعل أبرزها أهمية العالم الانقلوفوني لا من حيث المساحة وعدد السكان فحسب بل من حيث تنوع ثقافاته وثراء مخزونها الحضاري أيضا، علاوة على الوزن السياسي والثقل الاقتصادي لدول منظمة الكومنويلث ناهيك عن كونها تضم 5 دول من ضمن أقوى 20 اقتصادا في العالم وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا والهند.
وقد مثّل البحث العلمي في مجال للدراسات الثقافية الانقليزية أحد أهم ابواب دراسة خصائص مجتمعات والعالم الانقلوفوني وآليات تشكّلها ماضيا وحاضرا ومستقبلا والبحث في جذورها وفهم سيرورة تطورها وتحليل ديناميكياتها انطلاقا من دراسة أعمال أدبية بمختلف أجناسها (شعر رواية مسرح سيرة…. الخ). وباعتماد نظريات مختلفة على غرار ما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعدها مثلت السرديات الادبية الانقليزية مجالات خصبا لبلورة أطروحات متنوعة تسبر أغوار العالم الانقلوفوني بمختلف أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وفي تفكيك خطابات الهيمنة والاحتواء والظلم والإقصاء والتمييز وإيديولوجيات الإمبريالية والاستعمار بشقيه السياسي والثقافي وغيرها من أشكال العنف.
أما في السياق الأكاديمي التونسي ورغم تعاظم الاهتمام باللغة الانقليزية في الجامعات منذ بداية الالفية. فإن البحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية مازال محدودة ومحتشما. وهذا لعدة أسباب لعل أبرزها:
ندرة عدد الأساتذة الباحثين “صنف أ” المتخصّصين في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية حيث لم يعد عددهم يتجاوز حاليا أصابع اليد في حين يتجاوز عدد أقسام الانقليزية 20 قسما موزّعين على 11 جامعة. وهذا النقص الفادح في أساتذة هذا الاختصاص سوف يؤثر آليا على عدد المرسمين في مرحلة الدكتوراه وبالتالي على عدد الباحثين.
كما أنّ عدم وجود أي مخبر بحث في هذا الاختصاص من أبرز التحديات التي تواجه البحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية. فكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس مثلا لا يوجد فيها مخبر بحث في الدراسات الثقافية الانقليزية رغم وجود قسم الانقليزية بها في حين انه يوجد مخبر بحث في الدراسات الألسنية الانقليزية في كلية الاداب والعلوم الإنسانية بصفاقس وهو مخبر البحث في مقاربات الخطاب: Laboratory of Approaches to Discourse
ومن أبرز معوقات تطور البحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية هو النقص الحاد في المجلاّت العلمية المحكمة. حيث توجد مجلة وحيدة تعنى جزئيا بهذا المبحث وهي: The international journal of Humanities and Cultural Studies.
ومن أهم أسباب تراجع البحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية هو عدم انفتاح مخابر البحث في العلوم الإنسانية وفي الآداب العربية والفرنسية على هذا الاختصاص.
فأغلب المشرفين على مخابر البحث في اختصاصات العلوم الإنسانية على غرار الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية لا يبدون اقتناعا بأهمية انفتاح اختصاصاتهم على النصوص الأدبية والحضارية والدراسات الثقافية الانقليزية عموما. وهذا يعود جزئيا لطبيعة تكوينهم الفرنكوفوني وخاصة لعدم ترسخ ثقافة تنوع الاختصاصات وتداخلها pluridisciplinarité et interdisciplinarité.
حيث مازال أغلبهم يؤمن بالحدود الصارمة بين العلوم الإنسانية والآداب. ومن جهة أخرى يعود عدم انفتاح مخابر البحث في الآداب والحضارة العربية والفرنسية على الدراسات الثقافية الانقليزية إلى تهميش مبحث الآداب المقارن والترجمة وهذا يعود بدوره لضعف تكوين أغلب الأساتذة الباحثين في اللّغة الانقليزية. هذا علاوة على غياب الدعم المادي واللوجستي من سلطة الإشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. حيث تفتقر المكتبات الجامعية لمراجع بحثية سيما في علاقة بمباحث معاصرة وراهنة وعدم رقمنتها.
كما أن الباحثين التونسيين يجدون صعوبة بالغة في توفير المراجع الضرورية التي نفتقدها المكتبات الجامعية ودار الكتب الوطنية ناهيك أنّ المقتنيات من الخارج عبر منصة أمازون وغيرها بالعملة الصعبة تتطلب إجراءات إدارية معقدة فضلا عن تكلفتها العالية التي تبلغ أحيانا ضعف المنحة الشهرة لطالب الدكتوراه. هذا دون أن ننسى الإشارة إلى عدم توفير ولوج مجاني free access لقواعد بيانات database الدوريات المحكمة.
هذا بالإضافة إلى محدودية المنح المتوفرة الباحثين في هذا المجال من اجل المشاركة في الندوات العلمية المحلية وخاصة الدولية. حيث يضطر الباحثون لتوفير نفقات المشاركة الباهظة من مواردهم الذاتية. كلّ هذه الأسباب المذكورة مجتمعة أعلاه تفسر محدودية البحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية.
الحلول:
إنّ الارتقاء بالبحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية ينطلق أساسا من اقتناع سلطة الإشراف بأهمّية هذا المبحث العلمي الهام والواعد.
ثانيا، الترفيع في عدد خطط الانتداب لرتبة أستاذ محاضر والترقية لرتبة أستاذ تعليم عال في مناظرات الانتداب مع معالجة البطء الحاصل في مناقشة ملفات التّأهيل الجامعي. وهذا من شأنه تيسير فتح مخابر ووحدات البحث في هذا المبحث.
ثالثا، توفير تحفيزات لكل من يعبر عن نيته إطلاق جمعية علمية أو مجلة محكمة تعنى بهذا المبحث وتوفير الدعم المالي وتشجيع الانتقال الرقمي في النشر.
رابعا، تشجيع المخابر في العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب العربية والفرنسية على الانفتاح على هذا المبحث.
خامسا، تشجيع الجامعات التونسية على ربط علاقات أكاديمية مع مخابر البحث التي تهتم بهذا المجال في الجامعات الغربية.
خاتمة
حاولنا في هذا المقال تشخيص الأسباب الموضوعيّة وراء تراجع البحث العلمي في مجال الدراسات الثقافية الانقليزية وكذلك اقترحنا بعض الحلول التي نراها قادرة على النهوض بهذا الاختصاص انطلاقا من أهميته باعتباره أحد أهم النوافذ التي تمكننا من فهم مجتمعات العالم الانقلوفوني وللتّواصل معها بشكل أنجع.