بقلم الدكتور الباحث محمد حداد
مقال نشر في العدد الرابع، ماي 2024 من مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي
سعت الجمعية الوطنيّة لطلبة الدكتوراه والدّكاترة الباحثين التونسيّين منذ تأسيسها إلى دعم مسار البحث العلمي وما يفرضه من شروط والتزامات. فكان وضع طلبة الدّكتوراه في تونس أحد أهم محاور اهتمامها لا باعتبارهم من منظوري الجمعيّة فحسب، وإنّما لما يمتلكه طلبة الدكتوراه في تونس من عزيمة وصبر رغم مختلف المعوّقات اللوجستية والاجتماعيّة التي يواجهونها في مسارهم البحثي. الأمر الذي دفع الهيئة المديرة في مناسبات عديدة إلى التدخل من أجل تسهيل مسار هذا البحث في حدود إمكانياتها المتاحة صلب المجتمع المدني.
فعملت الجمعيّة عبر سلسلة من المراسلات التي طالبت فيها بتمتيع طلبة الدّكتوراه من آجال إضافيّة لإيداع أطروحاتهم، خاصّة في فترة وباء كورونا التي كان لها أثر سلبيّ على المئات من طلبة الدّكتوراه في مختلف الاختصاصات، خاصّة منها الشّعب العلميّة. ليناهز عدد الطلبة الذّين لم يتمكنوا من إيداع أطروحاتهم في الأجل القانوني في السنة الجامعية 2020/2019 الأربع مئة طالب بسبب تعثر مسارهم البحثي في تلك الفترة. ولا يرتبط الواقع الأكاديمي الصّعب لطلبة الدّكتوراه بالظروف القاهرة والاستثنائيّة، بل بصراع دائم صار قدرا محتوما لكلّ لجلّ طلبة الدّكتوراه. فبين الرهانات العلميّة والبحثيّة والضغوطات الماديّة والاجتماعيّة يجد طالب الدّكتوراه في تونس نفسه مجبرا على البحث عن عمل لتأمين مساره البحثي خاصّة في فترة الترسيم الاستثنائي الثالث والرابع. رغم أنّ هذه الفترة فترة دقيقة ومؤثّرة في مسار الأطروحة، وكان يفترض بالطّالب أن يتفرّغ كلّيا لإتمامها.
ولطالما طرحت هذه الإشكاليّة على طاولة المفاوضات من قبل ممثلي حراك طلبة الدّكتوراه والدّكاترة الباحثين، ليقع التنبه إلى استحالة إتمام أطروحة الدّكتوراه في هذا السياق الاجتماعي الصعب في حدود ثلاث سنوات، أمر تؤكّده إحصائيات الإيداع التي تقع جلّها في الترسيم الرّابع والخامس. وهو ما يفتح المجال أمام عدّة تساؤلات لعلّ أبرزها: إلى أي مدى يحفظ دعم وزارة التعليم العالي لطلبة الدّكتوراه على مستوى المنح الجامعيّة ومنح التّربّص حقّهم المشروع في مناخ علميّ مستقرّ ومقبول من أجب إتمام أطروحاتهم؟ وإلى أيّ حدّ تساهم العوامل الخارجيّة في الحيلولة دون تحقيق طلبة الدّكتوراه في تونس لحلم مناقشة أطروحاتهم؟
إنّ طرحنا لملف إيداع أطروحات الدّكتوراه هو محور جامع للسبب وللنتيجة في آن واحد، فما لم تتوفر المتطلّبات اللوجيستيّة والبحثية الكافية، وما لم تمرّ الأطروحات بمسار رصين في مستوى الإعداد والتحرير ستكون
النتيجة الطبيعيّة إمّا إخفاقا في إتمام الأطروحة أو خوض مشقّة مضاعفة لا من قبل الطّالب فحسب وإنّما من قِبل الأساتذة المؤطّرين والمناقشين في مستوى التقارير. خاصّة مع النقص الملحوظ في عدد الأساتذة المؤطّرين، ليتحمّل الأساتذة تأطير هذه الأطروحات ومناقشتها في مسار ماراتوني لا يتوقّف، وهو ما يؤخر آجال المناقشات. وإذا كان هناك رهان جدّي لدى كلّ الأطراف على جودة الأطروحات التي يتمّ إيداعها ومناقشتها كلّ سنة، فلا مجال للتغافل على إيجاد حلول عاجلة لواقع طلبة الدّكتوراه في تونس. والتي نجملها في النّقاط التّالية:
- المنحة الجامعيّة: تعتبر المنحة الجامعيّة من أهم المسائل اللوجستيّة الّتي تدعم مسار الطّالب البحثي، خاصّة حينما يكون دخل أسرته محدودا، ومع ذلك نجد أنّ سلطة الإشراف لم تأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار. وهو ما يبدو جليّا في ترفيعها في منحة طلبة الإجازة والماجستير في العقدين الأخيرين لتصل زيادة منحة الماجستير مثلا إلى ما يقارب ثلث قيمة المنحة قبل عشرة سنوات، في حين ظلّت منحة طلبة الدّكتوراه على حالها رغم التضخّم المهول في كلّ المتطلّبات الخاصّة بالبحث العلمي، انطلاقا من معاليم نسخ المراجع ووصولا إلى إنجاز تجارب البحث الخاصّة بالأطروحة. هو أمر يجب أن يقع تقييمه بجديّة لمساسه المباشر بمسار البحث، ولكي لا يضطرّ طالب الدّكتوراه إلى البحث عن عمل حرّ يؤمّن احتياجاته الماديّة والاجتماعيّة، خاصّة مع ارتفاع معاليم الكراء والسّفر وغلاء الأسعار.
- منح التّربّص: من المعلوم أنّ منح التّربص لا تعمّم على جميع الطّلبة، وإنّما يخصّص عدد محدود من فرص التّربص حسب إمكانيات كل جامعة، ونظرا إلى محدوديّة ميزانيّة وزارة التعليم العالي مقارنة بغيرها من الوزارات، ورغم ذلك فحليّ بسلطة الإشراف أن تحاول الترفيع في فرص التّربص كلّ سنة، لا لتزايد عدد طلبة الدّكتوراه فحسب، وإنّما لضمان تكافؤ أكثر في فرص التكوين والبحث في مرحلة الدّكتوراه لكلّ الطلبة التونسيين.
- منحة التشجيع على الانتاج العلمي: اللافت للنظر هو التعديل الذي حصل في خصوص الأمر الوزاري الخاص بمنحة التشجيع على الانتاج العلمي لسلك المدرّسين الجامعيين، وهو أمر إيجابيّ ويحتاج إلى مزيد من الدّعم والتطوير. ونتساءل لمَ لا يتمتّع طلبة الدّكتوراه بهذه المنحة، خاصّة وأنّهم من أكثر المساهمين سنويا في منشورات الجامعة التونسيّة بمقالاتهم وأطروحاتهم. فهذا الحق المادي على بساطته يمثّل اعترافا بجدّيتهم وتميّزهم وخطوة من شأنها أن تعزّز رغبتهم في نشر المزيد من البحوث والمقالات.
- التّشريعات والقوانين: كانت الجمعية الوطنيّة لطلبة الدّكتوراه والدّكاترة الباحثين قد وجّهت مراسلة إلى سلطة الإشراف طلبت فيها تعديل الفصل السّادس عشر من الأمر عدد 47 لسنة 2013 مؤرخ في 4 جانفي 2013 يتعلّق بضبط الإطار العام لنظام الدراسة وشروط التّحصيل على الشهادة الوطنية للدكتوراه في نظام “أمد” ، يخصّص مضمونه إلى منح فرصة تمديد استثنائي بسنة إضافيّة في حال تعرضّ البلاد إلى ظرف قاهر – كما حصل مع وباء الكرورونا – أو في حال تعرضّ طالب الدّكتوراه إلى ظرف صحيّ أو اجتماعيّ قاهر حال دون إتمامه لبحثه في مستوى الترسيم الخامس، وهو مطلب مشروع وضروري لحفظ حقّ طالب الدّكتوراه في الإيداع والمناقشة بعد تكبّده مشاق البحث والتكوين لمدّة خمس سنوات.
إنّ كلّ هذه المعوقات التي يواجهها طلبة الدّكتوراه في تونس تتطلب إستجابة إيجابيّة وعاجلة من سلطة الإشراف، وهو ما سيعزّز مسار البحث العلمي في صفوف الآلاف من الباحثين الشّبان. وسنعكس إيجابا على واقع البحث العلمي في تونس، ويكفي أن يكون عدد طلبة الدّكتوراه حاليّا في حدود خمسة عشر ألف طالب لنثبت أهميّة هذه الإشكاليّات ومشروعيّة البحث عن حلول لها.