بقلم د. الطيب الطويلي, دكتور باحث في علم الاجتماع
مقال نشر في العدد الثاني من “مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي“، جانفي 2024
قامت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بعد طول انتظار بتنزيل المنشور الخاص بعدد الخطط المزمع تسديدها للانتداب في سلك الأساتذة الباحثين التابعين للجامعات، رغم أنّ الخطط التي تم التصريح بها خاصّة فيما يخصّ 929خطة انتداب يعتبر عددا قليلا نسبة إلى عدد الخريجين الحاصلين على شهادة الدكتوراه، كمـا أنّ الدورة الماضية تنـاظر فيـها زهاء 8000 دكتور باحث على قرابة 1110خطة. ومع إرجاع بعض الخطط عن طريق بعض لجان الانتداب الذين رفضوا سدّ الشغورات التي طلبتها الوزارة وهياكلها الجامعيّة لأسباب، ولم يُفصح عن مبرّرات هذا الرّفض، ومع تحصّل أكتر من 1580طالب على شهادة الدكتوراه خلال السّنة الجامعية2023-2022 ، فإنّ عدد المترشحين لهـذه الـدورة يمكـن أن يتجاوز 8000مترشح.
واللاّفت للنظر في هذه المناظرة المرتقبة جمعها أيضا بين الانتداب والترقية بعنوان سنة 2020، لكن تمّ الإعلان عنها في بداية سنة 2024، أي بتأخر بأربع سنوات كاملة، وهي نفس الوضعية التي عرفتها كل من دورة 2019التي تم تنزيل بلاغها في أواخر2021 ، ودورة 2018التي تم تنزيلها في أواخر جوان 2019. يأتي هذا تبعا لالتزام الوزارة بدوريّة إنزال المناظرة عبر فتحها لدورة 2020لانتداب وترقية الأساتذة الباحثين.
وعندما تفتح الوزارات مناظرات للانتداب داخلية كانت أو خارجية عادة ما تكون السّنة التي تُعنون بها المناظرة محدّدة في قبول ملفات المترشحين ومجموع أعمالهم، فلا تتضمن ملفاتهم إلا الأنشطة والأعمال التي قام بها المترشّح في السنوات السابقة للسنة المفتوحة بعنوانها المناظرة ومن يبتغ غير ذلك فلن يُقبل منه. فمثلا نجد أنّ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تعتمد دورية المناظرات، وفي المناظرات الداخلية الخاصة بالترقية في عديد الرّتب بعنوان 2022، وفي مناشير كثيرة للوزارة (مرفق المنشور عدد 34الصادر في 9 أكتوبر 2023 مثالا)، تشترط في الأوراق المكونة لملف الترشح أن تكون شهائد المشاركة في الملتقيات أو الدورات التكونية قد تحصل عليها المترشح خلال السّنوات السابقة للسنة المفتوح بعنوانها المناظرة ( 2020و 2021)، أي أنه لا يمكن قبول شهائد تكون بعد هذه السنوات، ونفس الشرط ينطبق على الأنشطة والأعمال التي يقوم بها المعني بالأمر كما ذكرنا. وقس على ذلك مختلف المناظرات الأخرى التي تفتحها الوزارة
أما فيما يخصّ المناظرة المتعلقة بانتداب أستاذ مساعد فهي المناظرة الوحيدة المستثناة من هذا الشرط القانوني والمنطقي، حيث يمكن لمن تحصّل على الشهادة منذ أيّام أن يمرّ على المناظرة التي ينتظرها دكاترة سنة 2020. مناظرة بعنوان سنة معيّنة تعني أنها مناظرة متعلّقة بالسنة المذكورة، ومفتوحة لها، وتأخّرها على المستوى الزّمني لا يمنح حقّ إدراج الملفّات التي ترد بعدها، فيتمّ رفض أي ملفّ أو وثيقة أنجزت بعد تلك السنة شكلا قبل النظر في المضمون، وإلّا فأيّ معنى لعنونة السّنة؟ ولماذا يتمّ تطبيق شرط التقيّد بسنة العنوان على جميع مناظرات الانتداب والترقية إلا مناظرة انتداب أستاذ مساعد؟ ولماذا يكثر اللغط والتذمّر من هذه المناظرة المفروضة على الدكتور الباحث؟
وللدكاترة الباحثين العاطلين عن العمل مجموعات افتراضية عديدة وشديدة النشاط يمكن للقارئ من خلالها معاينة مختلف التدوينات والتعليقات ليلاحظ وجود مضامين كثيرة تشكك في شكليّة المناظرة، مثل مسألة “عنوان السنة” وهو أمر أساسي ومفصلي وحمّال لتأويلات وشكوك عديدة، في سياق تحوّلت هذه الشهادة لحامليها المهمشين الذين طال الأمد على بطالتهم إلى وزر ثقيل، وأن يُقبل ملفّ من نال شهادة الدكتوراه في جانفي 2024في مناظرة سنة 2020مثار للاستغراب والتندّر. والسؤال المطروح ماذا لو أنّ الوزارة تقيّدت بدورية المناظرة وقامت بتنزيل دورة 2020في سنتها الفعلية، فهل كان بالإمكان لمن تحصّل على شهادة الدكتوراه في السنوات التي تليها أن يشارك فيها؟
تشير عديد التدوينات النّازلة في صفحات حراك الدكاترة إلى أنّ للدّكاترة الباحثين الجدد حظّا أوفر في النجاح باعتبارهم في قلب المعمعة الأكاديمية وحديثو عهد بالعلاقات مع الأساتذة الذين يكوّنون اللجان، في حين أن الأقدمين كلّما طال عليهم الأمد كلّما تناقصت كفاءاتهم وتقلّصت معارفهم، ونقصد هنا المعارف العلمية، والمْعارف بمعناها الدارج في تونس.
وتُضبط المشاركة في كلّ المناظرات وفقا للسنة المعنيّة، ليلحظ المتابع مثالا على ذلك مرفقا بالمقال، ولا يستقيم بالمرّة أن تكون مناظرة 2020التي تأخرت لأسباب مالية أو لوجستية فضاء طاردا لخريجي تلك الفترة الذين انتظروا حقهم في فتحها، معزّزا لحظوظ آخرين. وفاتحا لأبواب من الكلام والشائعات عن تقاطعات مصالح علائقية بين مختلف الفاعلين في إطار المناظرة.
إنّ مجموعات الدكاترة الباحثين العاطلين المعطّـلين، الجامدين المجمّدين تمثّل حقلا خصبا للاشتغال السوسيولوجي، حيث نجد داخلها سرديات عديدة عن مظالم وولاءات ومصالح مفترضة. تنتهي العديد من التدوينات والتعليقات بالإحالة على اليأس والتسليم، بعبارات مثل “حسبي الله ونعم الوكيل” “عند الله تلتقي الخصوم”. كما يبدو ارتهان الدكتور التونسي إلى هذه المناظرة التي تمثل بالنسبة إليه محددا لمستقبله العلمي والوظيفي.
وتذكر تدوينة (وهو كلام على عهدة متلفظيه) أن هذه المناظرة قد يتحكم فيها عضو لجنة لا يتجاوز عدد مقالاته العلمية نصف عدد مقالات الدكتور المترشح، ومع ذلك يتحكم في مصيره ويكون قادرا على إسقاطه دون أن يحاسبه أحد، فالعضو “سيّد نفسه”. كما أن شبكات التقييم غير موحّدة وتختلف من لجنة إلى أخرى، فكلّ واحدة تضع مقاييس تلائم ما تراه باعتبارها “سيّدة نفسها”، لا تقبل نقدا ولا حسابا من أحد، فهي لا تُسأل عمّا تفعل. ولهذا يتّهمها البعض إنها “مقاييس على المقاس” يضعها بعضهم لإعلاء شأن المترشح الذي يليه. تُهم تبقى معلّقة من طرف المترشحين الذين لم يحالفهم الحظ في النجاح.
ونخلص في الأخير إلى اعتبار كل السنوات التي أمضاها الدكتور الباحث التونسي في التعليم، ثلاث عشر سنة بعد الباكالوريا بالنسبة للدكتور نظام قديم، وثماني سنوات بعد الباكالوريا بنسبة للدكتور نظام “إمد”، لا معنى ولا قيمة لها إذا لم تمرّ بتعميد ومباركة لجان الانتداب. ففي تونس يبقى الدكتور رهينة المناظرة. كما أن النجاح في المناظرة يجبّ ما قبله، فغالبا ما يتحوّل خطاب التشكيك والمظلوميّة الذي كان يقوله بعض الدكاترة الباحثين قبل مناظرة 2019إلى صمت واختفاء جلّ الناجحين عن فضاءات التنديد والاحتجاج مباشرة بعد النجاح. صمت الناجحين لا يمكن أن يُنسي ما سبق من عويل قديم، ومن أكوام التشكيك والتخوين التي امتلأت بها هذه الصفحات، عن أماكن مفتوحة للانتداب يبقيها اللجان شاغرة رغم وجود ترشحات عديدة ودون أي تبرير أو تفسير، كلّ ما في الأمر أن اللجنة “سيّدة نفسها” ارتأت أنّ جميع المترشحين الحاصلين على اختصاص ما غير مؤهلين ولا تتوفر لديهم الشروط الكافية للنجاح، في حين كان يسمح لهم بالتدريس لسنوات في الجامعة في ذلك الاختصاص عن طريق عقود أو بصفة عرضيّة، كما يُسمح لطالب سنة أولى دكتوراه في نفس الاختصـاص أن يدرّس ويعدّ الدروس الملقاة على الطلبة بنفسه، رغم أنه قد يكون أمضى سنوات دراسته الجامعية كلها في اختصاص آخر، ولا يمكن للجنة أن تقدّم أي تفسير يمكن أن يقنعنا أن الدكتور الباحث الذي تم إقصاؤه بدعوى عدم الكفاءة لا يصلح لملء مقعد أستاذ مساعد في اختصاصه، وكيف لأحد أن يسائل سادة أنفسهم؟
تململ وحديث داخل الصفحات الافتراضية عن أعضاء تقوم بإنجاح أتباعها. عبر التضخيم في عدد الشفاهي لهم مقابل تقزيم آخرين، أو عبر احتساب كل ما يقدّم من وثائق ومقالات للبعض واعتبار مقالات لآخرين لا وزن لها ولا قيمة للمجلات العلميّة التي نُشرت فيها، وتُحكى الحكايات وتُروى عن قصص لا أسماء لها وعن محاباة لأشخاص بلا هوية، فالجميع يخاف من ذكر الأسماء.
إنّ الإشكالات القانونية التي تتركها الوزارة في عملية الانتداب يجعل من كثرة التشكيك، لا تطال لجان الانتداب أو القائمين عليها فحسب بل هي تذهب إلى التشكيك في قيمة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس. ولعل الوزارة قادرة بإعادة ترميم النصوص المنظمة لعملية الانتداب، أن تخرج من هذا التشكيك المتواصل.
أوّلا، إما بتطبيق القانون المنظم للمناظرات على مناظرة انتداب الأساتذة المساعدين، على غرار ما تم ذكره في المنشور عدد 34المذكور آنفا، وذلك بإضافة جملة من قبيل “يتضمن الملف الأنشطة والأعمال والشهائد التي قام بها المترشح في السنوات السابقة للسنة المفتوحة بعنوانها المناظرة.” وهي الجملة ذاتها التي تتكرر في عديد مناشير المناظرات التي تفتح الوزارة
ثانيا، تطبيق ما جاء في جلسة العمـل بتاريخ 7أفريل 2017وذلك بعد اجتماع الوزارة مع ممثلي الدكاترة الباحثين بعد اعتصام عدد كبير منهم داخل جامعة صفاقس، خاصة في النقطة الرابعة حين تم التنصيص على تنسيق الوزارة مع لجان الانتداب المنتخبة قصد إعلان هذه الأخيرة عن معايير التقييم قبل إيداع ملفات الترشح وذلك قصد إرساء مبدأ الشفافية. دون أن ننسى محضـر الجلسة المنعقـدة في 5أفريل 2021بمقر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، حيث ضمّت الجلسة وفدا عن الوزارة ووفدا عن الجامعة العامة وممثلين عن الدكاترة الباحثين، حيث نجد في النقطة الخامسة منه التأكيد على نشر شبكة التقييم من قبل كافة أعضاء اللجنة قبل تسليم ملفات المترشحين