بقلم وسيم حقي، طالب دكتوراه في اللغة العربية-حضارة،
مقال نشر في العدد الرابع، ماي 2024 من مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي
نخصّص في مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي مقالا للتّعريف بمراكز البحث التّونسيّة في مختلف الاختصاصات العلميّة والأكاديميّة، ونوجّه اهتمامنا في هذا المقال إلى وحدة البحث إناسة ومجالات ومعارف وآفاق، والتي تعتبر من أهمّ وحدات البحث في العلوم الإنسانيّة بجامعة سوسة. وهي نواة للدّراسات الأنتروبولجيّة بكليّة الآداب العلوم الإنسانيّة بسوسة. وتميّزت منذ إحداثها بعقد جملة من النشاطات العلميّة الهامّة والمتنوّعة، نحاول في هذا المقال أن نرصد أهمّ محاور اهتمامها ونعرّف بالباحثين المساهمين في مسارها العلمي والبحثي.
1. التّعريف بوحدة البحث:
تمّ إحداث وحدة البحث إناسة ومجالات ومعارف وآفاق في بداية سنة 2016. وترأّسها فقيد الجامعة التونسيّة الأستاذ عبد الفتّاح براهم، ليتولّى حاليا رئاستها الأستاذ كمال جرفال، ويعود الفضل في إحداث هذه النواة العلميّة في الدّراسات الأنثروبولوجيّة إلى مجموعة من الباحثين التونسيين بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة وعلى رأسهم الأستاذ المنصف بن عبد الجليل، وبالتّعاون مع باحثين من مركز الدّراسات الإفريقيّة بجامعة بايرويت Bayreuth الألمانيّة. ووجّهت نشاطات وحدة البحث إلى محاور بحث مختلفة تحت إشراف الأساتذة المنصف بن عبد الجليل ورضا كعبيّة وآمنة غيث وأحمد بوجرّة، وتهتم نشاطاتها العلميّة بالمجال الإفريقي وإفريقيا جنوب الصّحراء بدارجة أولى، للكشف عن خصائص المجتمعات الإفريقيّة، والأقليّات الدّينيّة. كما تدعم مشاريع البحث الأركيولوجيّة على غرار مشروع الموقع الأثري بتابسوس Tapsus. إضافة إلى مشاريع البحث البيئيّة، على غرار مشروع “حماية جبل السّرج” تحت إشراف الأستاذ أحمد بوجرّة وفريق عمله من قسم الجغرافيا.
وتضمّ وحدة البحث حاليّا مجموعة من الأساتذة الباحثين وطلبة الدّكتوراه من اختصاصات علميّة مختلفة. وقد تقدّم المشرفون عليها بمقترح إلى سلطة الإشراف لتحويلها إلى مخبر بحث يضمّ ثلاثة فروع بحثيّة تختص في اللّسانيّات والدّراسات الحضاريّة والدّراسات التّاريخيّة، وفي انتظار تحقّق هذا المطلب الواعد، هذه لمحة بسيطة عن وحدة البحث: إناسة ومجالات ومعارف وآفاق.
2. نشاطات وحدة البحث
تتّصل الفعاليات العلميّة والتكوينيّة في وحدة البحث بمحاور اجتماعيّة وثقافيّة تعبّر عن إشكاليات المجتمعات الإفريقيّة، وما تشهده من اختلافات عرقيّة ودينيّة.
كما ترصد أهم المقاربات الحضاريّة والسوسيولوجيّة عن أفريقيا فكرا وثقافة ونمطا اجتماعيّا. وتهدف هذه النشاطات إلى تكوين الباحث في مناهج وآليات البحث الأنثروبولوجي برصد أهمّ العناصر التي تساهم في تشكّل مختلف الظّواهر الاجتماعيّة والثقافيّة وتطوّرها. وقد تعزّز نشاطها بفضل إحداث شعبة الدّراسات الأنثروبولوجيّة بكليّة الآداب سوسة، ثم بعث مرحلة ماجستير البحث في هذا الاختصاص، والتي تشهد تطوّرا هامّا في عدد الطّلبة المسجّلين بها.
ولعلّ أهمّ ما يمكن أن يميّز الدّراسات الأنتروبولوجيّة هو اشتغالها وفق آليات وضوابط محدّدة. أوّلها، التمثّلات ويُقصد بها التعبيرات الرّمزيّة للمجتمعات، في تقاليدها، وشعائرها وطقوسها وأساطيرها، وغيرها من التشكّلات الثقافيّة. وثانيها، الآخر موضوعا للبحث، وبذلك تشكّل علم دراسة الآخر لا علما لدراسة الأنا. ويوجّه الاهتمام إلى المكوّنات الثقافيّة التي تميّز المجتمعات وتساهم في تطوّرها أو تفكّكها. وثالثها، المقوّم المنهجي حيث تتبنّى الأنتروبولوجيا المنهج الكيفي، استنادا إلى ملاحظات الباحث ومعايشته للمجتمع الذي يدرس خصائصه.
وتهدف وحدة البحث إلى دعم مشاريع البحث المهتمّة بالشّأن الإفريقي في مختلف الاختصاصات من خلال نشاطاتها العلميّة عبر الورشات البحثيّة والأيام الدّراسيّة والمحاضرات وإعداد النّدوات العلميّة، ويؤثّث هذه النشاطات أساتذة باحثون – أفارقه وغربيون – مختصّون في التاريخ وعلم الاجتماع والدّراسات الحضاريّة واللّسانيات، على غرار سلسلة المحاضرات في اللّغات السّاميّة التي قدّمها عالم اللّسانيات لوتس ادزرد Lutz Edzard. واعتمد الباحث في هذه الورشة العلميّة أمثلة ونماذج معجميّة ولغويّة بيّن من خلالها المُشترك والمُختلِف بين اللّغات الساميّة في الفضاء الإفريقي والآسيوي.
مع منح طلبة الدّكتوراه الفرصة للإطّلاع على أهم الدّراسات والبحوث التي تهمّ أطروحاتهم، هذا إضافة إلى توفير فرص تكوينيّة محليّا ودوليّا في منهجيّة البحث الأنتروبولوجي Methodology of anthropological research، وذلك بالاشتراك بين مركز الأنثربولوجيا بكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة ومركز الدّراسات المغاربيّة institut de recherche sur le Maghreb contemporain ( IRMC)، وذلك تحت إشراف الأستاذتين خولة الماطري وقمر بن دانة. ومركز “داد DAAD الألماني للدّراسات والبحوث، بالتنسيق مع الأستاذ رمزي بن عمارة. كما يدعم نشاط وحدة البحث أساتذة كليّة الآداب سوسة في مختلف الاختصاصات على غرار الأستاذ فتحي انقزّو في اختصاص الفلسفة والأستاذة رمزي بن عمارة وخولة الماطري وماهر تريمش في اختصاص علم الاجتماع وفي الأنتروبولوجيا، والأساتذة سفيان بن موسى ومحمد سعيد وسلوى الحاج صالح من قسم التّاريخ … وغيرهم من أساتذة كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة.
وتعتبر ورشة العمل الدّولية “الدّراسات الإفريقيّة العمل والآفاق”، والتي انعقدت بتاريخ 23 و24 أفريل 2018 من أهمّ النّشاطات الدّوليّة التي نظّمتها وحدة البحث “إناسة ومعارف ومجالات وآفاق” ومركز الدّراسات الأنتروبولوجيّة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة، مع مركزDAAD الألماني للدّراسات والبحوث. نظرا إلى أهميّة التوصيات التي قدّمها الباحثون المشاركون من تونس ونيجيريا والبينين وألمانيا، إثر اشتغالهم على واقع الثقافات الإفريقيّة وتعريفهم بأهمّ الآليات التي يمكن الاعتماد عليها لفهم مقوّماتها وخصائصها، كما أكّدوا على أفضليّة الدّراسات الأنتروبولوجيّة في توفير معطيات دقيقة وموضوعيّة عن واقع المجتمعات الإفريقيّة ومشاغلها. ولا يخفى تميّز وحدة البحث في انفتاحها على مجالها الإفريقي وفي طرحها المبكّر لمختلف الإشكاليات التي تشغل المجتمع الإفريقي على غرار التنوّع الثقافي وتوفير مقاربات اجتماعيّة واقتصاديّة فاعلة للحدّ من هاجس الهجرة نحو أوروبا لدى الشباب الإفريقي، إضافة إلى أهميّة التعاون بين مختلف الباحثين الأفارقة لتوفير مقاربات علميّة وسوسيولوجيّة لهذه الإشكاليّات. وتضمّ وحدة البحث طلبة دكتوراه من اختصاصات مختلفة. وتميّزت أطروحاتهم التي تمّ مناقشتها أو مازالت قيد الإعداد برصدها من زوايا نظر مختلفة لواقع المجتمعات الإفريقيّة ولبعض الأقليّات الدّينيّة في دول إفريقيّة كالجزائر وموريتانيا والسنغال ونيجيريا وتنزانيا، ولعلّ من الأمثلة البارزة عن قيمة هذه الأطروحات العلميّة في فضائها الإفريقي أطروحة الباحث أسامة بوفريخة عن ” فضاءات الاحتجاج وأنساقها الرمزية مقاربة أنتروبولوجية تأويلية لإباضية وادي ميزاب”. التي تمّ نشرها سنة 2023. والتي لاقت اهتماما من قبل الطائفة الأباضيّة وفي الوسط الأكاديمي لطرافة موضوعها وجدّته. ولخروج الباحث عن المألوف في التعاطي مع مبحث الأقليّات الدّينيّة، حينما جعل من الزيارة الميدانيّة الركن الأساس في التّعرّف على طبيعة الطائفة الأباضية والبحث في معتقداتهم وطقوسهم وعاداتهم في الجزائر.
أمّا مشروع وحدة البحث في علم الآثار الذي يعنى بالموقع الأثري تابسوس Tapsus فقد كان مثالا بارزا على جمع المشرفين على هذا المشروع بين المسار العلمي النظري والمسار الميداني عبر الحفريات بالتعاون مع المعهد الوطني للتّراث ممّا قدّم لطلبة التاريخ بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة فرصة مميّزة للإطلاع ميدانيّا على موقع من أهمّ المواقع الأثريّة بتونس. وليكون هذا المشروع البحثي والأركيولوجي نواة لحماية وتثمين الإرث الثقافي المادّي واللاّمادي.
كما لا يخفى دور المشروع البيئي الذي يشرف عليه الأستاذ أحمد بوجرّة في قسم الجغرافيا، لا لخطورة بعض الإشكاليات البيئيّة في بلادنا فحسب، وإنّما لأهميّة تكوين نواة بحثيّة يكون هدفها تعزيز الوعي بأهميّة بعض المكاسب البيئيّة توضيح مختلف المخاطر التي تهدّدها.
3. آفاق وحدة البحث:
في انتظار أن تتحوّل وحدة البحث إلى مخبر بحث، ممّا سيعزّز دورها الأكاديمي لفائدة طلبة العلوم الإنسانيّة عموما والدّراسات الأنثروبولوجيّة خصوصا، يمكن أن نعتبر قرار إحداثها خطوة هامّة وجريئة لما حقّقته من تواصل وتعاون علميّ بين الباحثين الأفارقة، وهو ما سينعكس إيجابا على واقع الفضاء الأكاديمي الإفريقي، وسيسهم في تحقيق الأهداف العلميّة للمشرفين على هذا المشروع العلمي من أساتذة وطلبة، وليكون المجال مفتوحا أمام الباحثين الأفارقة للأخذ بزمام المبادرة في التصدّي لأهم إشكاليات المجتمع الإفريقي على غرار تفشّي الفقر والخلاف الثقافي وارتفاع منسوب الهجرة غير الشرعيّة وحماية الموروث التاريخي والثقافي والتوعية التّطرّف المناخي وغيرها من القضايا الرّاهنة التي كانت نشاطات وحدة البحث قد تطرّقت لها في السنوات الفارطة. ولا يخفى دور الدّراسات الأنتروبولوجيّة للوقوف على المتغيّرات التي المجتمع الإفريقي بمختلف أعراقه وثقافاته، وللتنبّه إلى أهمّ التحوّلات التي يشهدها الواقع الإفريقي والوعي بآثارها الاجتماعيّة حاضرا ومستقبلا.
ولعلّ ما أنجزته وحدة البحث إناسة ومجالات ومعارف وآفاق في نشاطها الجماعي أو من خلال نشريات وأطروحات أعضائها يعبّر بوضوح على قدرة الباحث التونسي على خلق رؤى ومشاريع بحث فاعلة ونوعيّة داخل الفضاء الجامعي وخارجه، فيستشرف حلولا لإشكاليات اجتماعيّة وثقافيّة قبل تفاقمها، ويمنح للطّلبة الباحثين فرصة جدّية لإثبات كفاءتهم نظريّا وميدانيّا، وما أحوج الفضاء الأكاديمي في بلادنا اليوم إلى هذا الجمع الخلاّق بين ما يحصّله الطّالب نظريّا وتوظيفه لما اكتسبه في تغيير واقعه المعيش والتّصدّي لمختلف التحدّيات الاجتماعيّة والثقافيّة التي ستواجهه. فيكون أقدر على الفهم وأنجع في إيجاد الحلول لقضايا مجتمعه المعاصرة.