عن الدّكاترة الباحثين المعطّلين عن العمل… وإليهم

بقلم وسيم حقي، طالب دكتوراه في اللغة العربية-حضارة،

مقال نشر في العدد الثاني، جانفي 2024 من مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي

إنّه لأمر محزن أن تصبح البديهيّات مطلبا عصيّا عن التحّقق، كأن يصبح تثمين الثروة العلمية والمعرفية لأجل التنمية الشاملة مطلبا مفرغا من معناه لسبب بسيط أنّ الميزانيّة عاجزة عن احتواء الآلاف من الطّاقات الشّابة في جميع الاختصاصات. وإنّه لأمرٌ مفزع حقّا أن تكون التكلفة المادّية أهمّ لدى سلطة الإشراف من الكلفة المعنويّة والعلميّة لمن جدّ ولم يجِدْ؟؟

I. سلطة الإشراف والطّرف النّقابي: “الدّكتور الباحث لا محلّ له من الانتداب”؟؟

بل لعلّ “المشهد الكاريكاتوري” الأكثر ألما أن يقع تقييم المترشّح بعد أن نال شهادته من لجنة علميّة تتكوّن من خمسة أساتذة برتيبة أستاذ محاضر وأستاذ تعليم عال، وباشر دون مناظرة عمله تدريسا وتأطيرا للطّلبة قبل المناظرة، ثمّ ماذا؟؟ يجب أن يقع تقييم ملّفه العلمي وأطروحته وتكوينه البيداغوجي لتؤكّد لجنة الانتداب أحقيّته بالتدريس بالجامعة الّتي درّس فيها فعلا، وأحقيّته بنيل الدّكتوراه وقد نالها فعلا؟؟ فهل يقبل العقل هكذا مسار؟؟ هل يقع ذلك مع الطّبيب مثلا؟؟ هل يُقال للفلاّح الذي زرع أرضه، أثبت لي أنّك قادر على زراعة الأرض لأمنحك صفة فلاّح؟؟

ألا يعتبر هذا “التقييم البَعديّ” مساسا بواجهة قرار لجنة المناقشة وبقرار الوزير الذي أشّر على شهادة الدّكتوراه وانتهاكا لحقوق حاملي شهادة الدكتوراه حينا يتمّ هرسلتهم بتقييم كفاءتهم بعد أن أثبتوها بمسارهم البحثي ونشرياتهم وتدريسهم لطلبة تخرّجوا على أيديهم، كثيرا ما يتردّد على لسان الحكومات المتعاقبة أنّ الاستثمار في العقول هو أهم استثمار اليوم، ولكنّ كلّ ما ذكرناه آنفا يقوّض هذا الاستثمار ويجهضه لا في الوسط الجامعيّ فحسب، وإنّما في عقيدة التلميذ الذي سيتساءل بداهة؛ لمَ نجتهد وندرس إن كان مصيرنا سيكون كمصيرهم بطالة أو تهجيرا ؟؟

إنّه لأمر بديهيّ أنّ التشغيل يعطي دفعًا لتنمية الاقتصاد وغيره من المجالات وما كان أبدا عبئًا على الميزانيّة بل هو أبرز دافع لتضاعفها. كما أنّ الانتماء للوطن الذي نحن جميعًا فيه شركاءٌ بالحقوق والواجبات والمسؤوليات لا يكون بالشّعارات وإنّما بتثمين الموارد البشريّة وتعديل مسار الدّولة وفق رؤاها وآفاقها.

وقد صار معلوما أنّ كلّ الإشكاليات القانونيّة والإجرائيّة بخصوص ملف الدكاترة الباحثين من غياب صفة مهنيّة وقانونيّة يتمّ على ضوئها رسم مسار تشغيليّ واضح ومضبوط، وعليه فلا مجال للتسويق إلى انفراج دون هذه الخطوة في هذا الملف المأزوم والمتفاقم سنة بعد سنة على مرأى ومسمع من كلّ الحكومات المتعاقبة ووزراء التعليم العالي والبحث العلمي.  وليس من العبث أن ينشأ وعي في صفوف الدّكاترة بتهميش وتعسّف على مصيرهم العلمي والمهني، كيف لا؟؟ وكلّ الجهات الحكوميّة والنقابيّة – وهذا الأغرب- لا تتعامل بجدّية مع مطلب إدراج شهادة الدكتوراه في السّلم الوظيفي. أليس أمرا لا منطقيّا وغير بريء أن لا تدرج شهادة الدّكتوراه إلى اليوم في السّلم الوظيفي؟؟

إنّه لظلم مُعلن ألاّ يقع عاجلا تصدير أمر حكومي يتمّ بموجبه إدراج شهادة الدكتوراه في السّلم الوظيفي. ثمّ تنقيح كل الاتفاقيات المنظمة للوظيفة العمومية في مختلف الوزارات والمؤسّسات، وترتيب مسار مدروس لانتداب الدّكاترة الباحثين بناء على ما يقرّه مركز شهادة الدكتوراه في السلم الوظيفي، وما تخوّله صفة دكتور باحث من امتيازات مهنيّة. ومن الملفّات المسكوت عليها أيضا عدم تنقيح كرّاس الشروط المنظّم لمؤسسات التعليم العالي الخاص، ممّا يجعل وضع الدّكاترة الباحثين المتعاقدين مع مؤسسات التعليم العالي الخاص ضحيّة لكرّاس شروط جاوز العقدين دون أي تعديل أو تنقيح يكفل حقوق الدكاترة الباحثين صلبه.

إنّ نظرة المجتمع إلى الدّكاترة الباحثين المعطّلين عن العمل ظروف الدكاترة الباحثين تعمّق المظلمة التي يتعرّضون لها مع سابق الإصرار والتهميش، فين تقدير لاجتهادهم العلمي وشفقة – نعم صارت كذلك فعلا- على وضعهم الاجتماعيّ والمهنيّ، تعبّر بوضوح على أولويّة مطالبهم وراهنيّتها. فمطلب الدّكاترة الباحثين المعطّلين عن العمل بعد كلّ ما عايشوه في سنوات البحث والتربّص هو استثمار خبراتهم البحثية في كل الاختصاصات لخدمة وطنهم لا أوطان المهجر وتطوير بناه في مختلف القطاعات. لقد صار لِزاما على سلطة الإشراف أن تنهي هذا التناقض بين الوضع الرّاهن والمنشود، وبين قيمة المكتسبات العلميّة وتكلفة الميزانيّة. كي لا يصبح التميّز العلمي والأكاديمي جرما يحرم صاحبه من طموحه الاجتماعي.

II. الدّكتور الباحث التّونسي: وعي التّجربة النّضاليّة وآفاق الحراك

لعلّ النقطة المضيئة في قضيّة الدكاترة الباحثين المعطلين عن العمل هو تجدّدها واستئنافها تباعا رغم كلّ العراقيل والضغوطات التي تعرّض لها الحراك، ولئن اتّسمت إجراءات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالتردّد والترحيل للمطالب من حكومة إلى أخرى، خاصّة ما تعلّق منها بآليات التشغيل الهشة والظرفية، التي لا ترتقي إلى طموحات حاملي أعلى مؤهل علمي في البلاد. ولكن هل يكفي تجدّد النّفس النضالي صلب حراك الدّكاترة الباحثين لتحقيق المطلوب؟؟ أم أنّ المسار صار يتطلّب رؤية نضاليّة مختلفة واستثنائيّة؟؟

إنّ المراهنة على تحقيق مطلب تشغيل الدّكاترة الباحثين بانتدابات قارّة في جميع قطاعات الوظيفة العموميّة وفي القطاع الخاص بامتيازاتهم العلميّة والمهنيّة، مطلب يعبّر ضمنيّا على تحدّ على غاية من الصّعوبة، ذلك أنّ الأمر سيقيّم ماديّا من قبل سلطة الإشراف، وهو ما ورد على لسان وزيرة سابقة للتعليم العالي موجّهة كلامها للمعتصمين ببهو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ” نحن نقرّ بحقّكم في التّشغيل ولا ننكر وجود الشّغورات، ولكن يكمن الإشكال في تكلفة تشغيلكم على ميزانيّة الدوّلة في سياق اقتصاديّ صعب”. وهو ما يعني أنّ وزارة الماليّة تتعامل مع ملفّ التشغيل وفق المتاح ماليا لا وفق المطلوب من موارد بشريّة صلب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، هذا إضافة إلى تموقع ميزانيّة وزارة التعليم العالي في أسفل ترتيب الموزانة الماليّة العامّة للدّولة كلّ سنة، بل تتناقص.

وأمام هذا التحدّي، وبعد ما اكتسبه الدّكاترة الباحثون من تجارب نضالية بلغت ذروتها مع اعتصام تغيير المصير، الذي سيظلّ إنّ أهمّ ما تحقّق إلى الآن في هذا الحراك النضالي هو تشكيل صورة أو مشهد نموذجي عن الدكتور الباحث في تونس في مساره النضالي، والذي يرفض التنازل عن حقوقه المعنوية والمادّية.  رغم كلّ الصعوبات. وقد أمسى هذا المسار منذ خروجه إلى العلن ردة فعل على مسار تشغيلي غير قارّ ومسدود الأفق. بل انتقل الحراك من إطاره الضيق النخبوي والأكاديمي ليصنع “حراكا وطنيّا” من أهم أهدافه إعادة الاعتبار للسّلم الاجتماعي ولقيمة التعليم والبحث العلمي في تونس. وصناعة صورة جديدة للاحتجاج تقابل فيها البيان بالبيان، واللقاء الإعلامي بلقاء إعلامي، والمقترح بالمقترح. ممّا خلق “بنية احتجاجية” مميزة وظّفت فيها خلفيّات علميّة وإنسانيّة، وعرّف من خلاله الدّكتور الباحث المعطّل عن العمل بقضيّة حاملي أعلى شهادة في البلاد، الذين لا يعترف السلّم الوظيفي بشهادتهم.

كما أنّ تطوّرت مسارات النضال بين حراك افتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو ميدان، إضافة إلى تركيز ممثل قانوني ممثّل في الجمعيّة الوطنيّة لطلبة الدّكتوراه والدّكاترة الباحثين التونسيين، وهذا ا يتطلّب وعيا بقيمة كلّ عنصر من هذه العناصر النضاليّة في الحفاظ على تواصل نسق الحراك وتنوّع آلياته المطلبيّة. وليس أدلّ على ذلك من تحوّل سقف كما أنّ تطوّرت مسارات النضال بين حراك افتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو ميدان، إضافة إلى تركيز ممثل قانوني ممثّل في الجمعيّة الوطنيّة لطلبة الدّكتوراه والدّكاترة الباحثين التونسيين، وهذا ا يتطلّب وعيا بقيمة كلّ عنصر من هذه العناصر النضاليّة في الحفاظ على تواصل نسق الحراك وتنوّع آلياته المطلبيّة. وليس أدلّ على ذلك من تحوّل سقف الانتدابات من 450 خطّة كأقصى تقدير في بداية اعتصام الدّكاترة الباحثين إلى 2400 خطة انتداب في آخر الاعتصام، ممّا يعني ظاهريّا أنّ تحقيق الرهانات المستحيلة أمرٌ وارد، وهنا أطرح تساؤلا غير بريء، ما الّذي تغيّر في حدود سنة ونصف حتّى يتضاعف سقف الانتداب خمسة أضعاف؟؟ هل كان ذلك تتويجها لتضحيات المعتصمين في محنة الشتاء والصّيف؟؟ أم أنّ تطبيق البند الأوّل من محضر جلسة فيفري 2021 أيسر بكثير وأقّل تكلفة من إدراج شهادة الدّكتوراه في السلّم الوظيفي؟؟؟؟؟

رغم الخذلان والتراخي في صفوف الكثير من الدّكاترة الباحثين إلاّ أنّ ما بذله المناضلون – بما تعنيه كلمة نضال من معنى أخلاقي وميداني – من تضحيات على حساب سلامتهم وأولويّاتهم الاجتماعيّة، يحتّم علينا التنبيه إلى ضرورة الحفاظ على ما بلغه حراك الدّكاترة الباحثين من وعي ومن صورة إعلاميّة مميّزة، وليس مسموحا بأن يقع المسّ من قيمة مسار الدّكاترة الباحثين بما يجعل صورة الدّكتور الباحث التونسي محلّ انتقاد أو تشويه. كما يجب على الآلاف من الصامتين عن حقّهم من طلبة الدّكتوراه والدّكاترة الباحثين أن يساندوا كل صوت نضالي – باختلاف موقعه وآلياته المشروعة والسلميّة-  لكي يحقّقوا رهانات ليست مستحيلة إذا توحّدت الصفوف من أجل رؤية تشغيليّة شاملة وجذريّة لصالح الدكاترة الباحثين المعطّلين عن العمل.

أيّها الدّكتور الباحث المعطّل عن العمل، ليست قضيّتك حالة اجتماعيّة تنتهي بتشغيلك في أي وظيفة، لتكون محلّ منٍّ وشفقة كما يسوّقها البعض. إنّ ما واجهته من تضحيات وما ملكته من صبر يجعلك ملزما بأن تحمي حقّك كاملا غير منقوص، وأن تنظر إلى ما يجب أن يتحقّق لا إلى ما يمكن أن يُمنح لك؟؟ إنّ مطلبك الذي حيّدوك عنه هو صفتك العلميّة التي بها سيغلق باب الإلحاق وغيرها من آليات التوظيف لغير حاملي شهادة الدّكتوراه، وبها لن يكون التعاقد على الصّيغة التي هو عليها الآن، وبها لن تكون ترقيتك بشهادة الدّكتوراه مساوية للترقية بشهادة الماجستير…؟؟ وبها لن تسافر إلى ملتقى علمي دولي مكتوب على جواز سفرك “عاملٌ يوميٌّ” أو ” ربّة منزل”…؟؟ والتي بها – دون سواها– سيغلق باب التعسّف على حقوقك المعنويّة والمهنيّة في القطاع الخاص…فإن قلت لي الصّفة لن تطعمني وتسقيني…أجيبك؛ بل هي كرامتك وسلطتك وهويّتك … وإن كانت لا تسمن ولا تغني من جوع كما يحدّثك من لا يعي بأهمّيتها أو يضلّلك عمدا لتسلك طريقا غير الطّريق إليها وإلى ما بعدها من آفاق … فهلاّ أجبتني؛ لمَ سكت عنها كلّ من مرّ على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ومنهم الجامعيون، ومازالوا يُمعنون في سكوتهم، ولمَ غاب التنصيص عليها في محضر جلسة فيفري  2021بعد أن كانت على رأس  مطالب الحراك ؟؟

إنّ الإجابة واحدة، وهي أنّ أي مسار نضالي لا تدخله من باب صفة دكتور باحث هو مسار نضالي عقيم مهما حقّق من انجازات، لا استنقاصا من قيمة ما تحقّق، ولكن ليس المهم أن توفّر انتدابا لألف أو ألفين، بل الأهم أن لا تتنكّر لحقّ الآلاف من زملائك من الدكاترة الباحثين وطلبة الدّكتوراه في التشغيل، والأكثرُ أهميّة أن تضمن كرامة من يراهن على العلم والبحث العلمي جيلا بعد جيل.