بقلم خلود نورالدين غنية، طالبة دكتوراه مختصة في علم الإجرام،
مقال نشر في العدد الخامس، جويلية 2024 من مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي
رسالة الدكتوراه هي مزيج السنين الحاملة لأحلام من الحياة التي تمضي في دراسة القواعد الأكاديمية والمناهج العلمية والفكرية خلف تضحيات مادية واجتماعية، وحتى نفسية وجسدية. لتتضافر فيها التجارب والمتاعب في ظل هشاشة وضع البحث العلمي في تونس، والبعض من الثواني التي تمرّ على الباحث كالعمر يرسم بقلمه شكل حلمه في أطروحة بإمكانها أن تكون مرجعا، رسالة، مفهوما، أو رؤية جديدة لمبحث علمي أو طرح جديد على غرار البحوث الكلاسيكية والمعطيات الأكاديمية التي يستحضرها الكلّ حسب مجال اختصاصه وكأنها من المسلمات الإيديولوجية، العلميّة والفنيّة.
حيث يجدر على كل دولة تحترم تحديّاتها نحو ترسيخ مناهج المدنيّة والنهوض الاجتماعي والمؤسّساتي، والعلمي بالأساس أن تعترف بهذا الصنف من الشهادات الجامعية وهي أعلى الدرجات الأكاديميّة التي تستوجب فرض الاعتزاز بها، وذلك احتراما لمشوار من التضحيات والاجتهاد والشغف المعرفي والأكاديمي لكل باحث مؤمن بقيمة هذه الرسالة نحو مستقبل أفضل، تماما كما هو الحال في الدول الغربية والمناطق المتقدمة من هذا العالم التي تعتبر الدكاترة النخبة الأكاديمية المبجّلة على مستوى الرقي بالدولة والنهوض بالفكر المجتمعي وتطوير سياسات البحث والتخطيط والتجديد.
وربما هجرة الدكاترة الباحثين إيمانا منهم بحلم متجدّد لم ولن يرى النور في تونس خير دليل على هذا الوجع الذي ينتاب نخبة الدكاترة على المستوى المادي والاجتماعي، وخاصة النّفسي، فرغم الحديث عن تطوير البحث العلمي وجهود الجامعات التونسية نحو تحسين السياسة الأكاديميّة والتشجيع على تطوير البحث، إلاّ أنّ الجهود التشريعيّة أو المؤسّساتية العمليّة لتحسين وضعية الدكاترة الباحثين في تونس لا ترتقي إلا لكونها جهودا مبتورة لا تستوفي حق هذه النخبة المهمّشة ومغتصبة الحق في تقرير مصيرها.
ويجدر القول بأنّ وضعية الدكاترة الباحثين في تونس أصبحت إشكالا حقيقيّا خاصة في غياب أو عجز الدولة عن توفير آفاق تشغيل تستجيب للقيمة الأكاديميّة والعلميّة لهذه النخبة البائسة، ذلك أقل ما يقال عنها في غياب الاعتراف بقيمة شهادة الدكتوراه، وهو ما يعاب على الدولة التي تعمل على تحقيق مفاهيم التجديد والتصورات المدنيّة، الإستراتيجيّة المستحدثة والعدالة الاجتماعية، وغير ذلك من المكاسب التشريعيّة التي تشغلها الملتقيات الإعلامية والصحف والمنابر في غياب مطلق لحضورها على أرض الميدان.
وللإشارة ففي الآونة الأخيرة من هذه العشريّة التمس الشارع التونسي حضور صوت الدكاترة الباحثين المعطّلين عن العمل دون آذان صاغية، وهي إشكالية تفرض توحّد المواقف حتى يصبح اعتماد شهادة الدكتوراه ضمن أعلى درجات السلّم الوظيفي قضية رأي عام وصوتا واحدا لا يتجزأ.
ويبدو أنّ الوقت قد حان لجدٍيّة التعامل مع هذه المسألة وتحديد مسار وآفاق وتطلعات الدكاترة في ظل الانتقال الديمقراطي وتجديد المسارات السياسية في تونس، ما يفرض على كل الهياكل المعنِيّة أن تشمل قضية الدكاترة الباحثين عنوانا للنهوض بالكفاءات التونسية فعلا وليس قولا، فالغياب أو التناسي المتعمّد والمطلق لهذه الوضعية الخاصة لا يمكن أن يحمل في طياته إلا عنوانا للإرهاب الفكري، النفسي والمجتمعي تتحمّله كل الهياكل المعنيّة على يقين من وجع هذه النخبة المهمّشة.
ولئن كانت شهادة الدكتوراه في الأصل شهادة جامعية يفترض أنها أعلى درجة علميّة تقتضي فرض الجودة في النهوض بها لخدمة الدولة والارتقاء بمؤسساتها، فهي ترجمة لرؤى متعددة الأوجه والفكر بعيدا عن وجع المذلّة الأخلاقية والتهميش المقصود والوعود الهيكليّة الزائفة لهذه النخبة.
الدكتوراه…هي فعلا رحلة نضال لجزء من العمر مضى فيه مشوار من الجهد المعرفي، الأكاديمي من شأنه الرقي بالبناء المؤسّساتي، فالحرص على تجسيد المدنيّة في الدولة محور لا تتجزأ عنه جودة الرقابة على تحسين التطلعات الاستراتيجيّة للتعليم العالي والبحث العلمي في تونس بما في ذلك الرقابة على حسن تفعيل شهادة الدكتوراه وإدماج الدكاترة في سوق الشغل بشكل يليق بهذا المشوار الفنّي الأكاديمي.
وبين متاهات الإدارة في التعامل مع هذه الوضعية الهشّة وضعف التناول الثابت لإشكالية الدكاترة المعطّلين عن العمل، خطّت العيون رسائل الدكتوراه شهادة للتاريخ بألف كلمة حب، تحية حب وقبلة حب لكلّ من ساهم في إثراء المكاسب العلميّة وتجديد البحث العلمي وسط هذا الزاد من الخذلان في تونس.