بقلم وسيم حقي، طالب دكتوراه في اللغة العربية-حضارة،
مقال نشر في العدد الخامس، جويلية 2024 من مجلّة الدّكتور الباحث التّونسي
شهدت مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي وبعض هياكل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تجديدا على مستوى المناصب واللّجان. وهو ما دفعنا إلى طرح جملة من الإشكاليات القديمة والمتجدّدة على طاولة المجالس العلميّة واللّجان المنتخبة. وذلك في ظلّ تواصل نفس المعوّقات التي اعترضت من سبقهم. وعلى رأسها كثرة المطالب والتحدّيات مقابل ضعف الموارد الماليّة. ذلك أنّ ميزانيّة وزارة التعليم العالي بقيت دائما في حدود أربعة بالمائة – تنقص وتزيد بنسبة ضئيلة جدّا – ممّا يطرح نقاط استفهام عديدة.
وبحثا عن الدّقة نطرح أهم التحدّيات المطروحة على كلّ جهة أو طرف، وما يتطلبه ذلك من موارد ماليّة.
I. مؤسّسات التّعليم العالي
يعتبر التحدّي اللوجيستي من أهم التحدّيات التي ما سيواجهها – كمن سبقهم – من سيشرفون على مؤسسات التعليم العالي، والتي يبلغ عددها 206مؤسسة تعليم عالي عمومي حسب التقرير السنوي للوزارة بعنوان سنة2022/2023. ولا تخفى كثرة المطالب اللوجستيّة الخاصة بمؤسسات التعليم العالي، على غرار تأهيل أقسام المؤسسة وتغطية نقائصها قبل حلول السنة الجامعيّة المقبلة، لا على مستوى المظهر فحسب وإنما على مستوى التجهيزات المكتبيّة والوثائق وغيرها من المستلزمات، وهنا يجد العميد أو المدير نفسه أمام خيارات محدودة، تفرض عليه إعطاء الأولويات لمطالب بعينها وتأجيل النظر في بعضها الآخر. وهذا ما يعيه جيّدا كل الفاعلين في الفضاء الجامعي من إداريين وأساتذة وطلبة. ويكفي فقط أن نقارن بين ما بلغه التعليم الرقمي في مؤسسات جامعيّة عربيّة في مقابل قدرات المؤسسات الجامعيّة التونسيّة لنعي حجم التحدّيات الملقاة على عاتق سلطة الإشراف لتأهيل منشآتها الأكاديميّة لوجستيّا وتقنيا.
II. مخابر البحث العلمي صلب مؤسسات التعليم العالي
لعلّ ميزانيات محابر البحث المرصودة من قبل سلطة الإشراف لمختلف المخابر باختلاف اختصاصاتها والمؤسسات العلمية التي تنتمي لها هو خير مثال على ما أشرنا إليه في عنوان هذا المقال، ونعني هنا الهوّة الشاسعة بين ما تطرحه المجالس العلمية المنتخبة من تحدّيات وأهداف، وما تجده في واقعنا الأكاديمي والبحثي من صعوبات ونقائص، وعلى رأسها عدم قدرة الميزانيات المرصودة لهذه المخابر على تغطية خطط وبرامج البحث المزمع تحقيقها، وعدم قدرتها على فتح المجال أمام تكثيف الأنشطة الأكاديميّة مثل عقد المؤتمرات العلميّة – عادة ما يقتصر نشاط المخبر على مؤتمر أو مؤتمرين دوليين كل سنة جامعيّة – وإحداث التربصات الخارجيّة لكلّ أعضائه من طلبة وباحثين . فرغم العدد المحترم لمخابر البحث في مختلف الاختصاصات العلميّة تبقى الميزانيات المرصودة لها متواضعة إن لم نقل محتشمة بالنظر إلى ما تمتلكه هذه المخابر من موارد بشريّة مميّزة ومشاريع بحث وتطوير واعدة. ويتوضح توزيع مخابر ووحدات البحث كالآتي وفق التقرير السنوي لوزارة التعليم العالي بعنوان السنة الجامعيّة 2022/2023.
ولتبيّن مدى محدوديّة ميزانيّة البحث العلمي المخصصة لمخابر ووحدات البحث يكفي أن نشير إلى أنّ ميزانيّة الوزارة المقدّرة بـ 2153000 مليون دينار سنة 2023، والتي يذهب القسم الأكبر منها إلى كتلة الأجور والمتطلّبات اللوجستيّة لمؤسسات التعليم العالي ولديوان الخدمات الجامعيّة. مع الإشارة إلى تباين الميزانيات المرصودة لكل مخبر بحث بالنظر إلى الاختصاص وطبيعة الأنشطة التي يضطلع بها، ذلك أنّ الميزانيّة المخصّصة للبحث العلمي توزّع على:
- مخابر البحث الأساسي المُحدثة بالكليّات والمعاهد والمدارس العليا.
- مخابر البحث والتطوير التكنولوجي المحدثة بمدارس المهندسين والمدارس العليا للعلوم التطبيقية والمعاهد العليا للدراسات التكنولوجية.
- مخابر البحث التنموي المحدثة بالمؤسسات العمومية للبحث العلمي والمؤسسات العمومية للصحة والمراكز الفنية القطاعية وبالمؤسسات والمنشآت العمومية المؤهلة للبحث بمقتضى النصوص الخاصة بها.
- وحدات البحث المحدثة بالمؤسسات العمومية للتعليم العالي وللبحث العلمي وبالمؤسسات العمومية للبحث العلمي والمؤسسات العمومية للصحة والمراكز الفنية القطاعية وبالمؤسسات والمنشآت العمومية المؤهلة للبحث بمقتضى النصوص الخاصة بها.
وعليه فإنّ أعضاء مخابر ووحدات البحث سيجدون أنفسهم في نفس المأزق الذي يمرّ به المشرفون على مؤسسات التعليم العالي، وسيضطرّون بدورهم إلى تحديد مسار أنشطتهم البحثيّة وفق الإمكانيات المتاحة والأولويات البحثيّة التي يرومون تحقيقها وإنجازها.
III. المنح: منح الطلبة، منح البحث العلمي، منح التشجيع على البحث العلمي:
لئن بدت الغاية من المنح المخصّصة لطلبة الإجازة ذات غايات لوجستية واجتماعيّة بدرجة أولى، فإن منح البحث المرصودة لطلبة الماجستير والطّب والهندسة وفي مرحلة الدّكتوراه لا ترتقي إلى تغطية مصاريف هؤلاء الباحثين الاجتماعيّة وهي قاصرة عن توفير دعم كاف لهم في مسارهم البحثي المثقل بالمصاريف التي غالبا ما تفوق إمكانيات أسرهم. وهو ما يطرح إشكالا عميقا ومحرجا في آن واحد، وهو تخيير الباحث بين الرضوخ للضغوطات الاجتماعيّة والانقطاع عن البحث أو تعويل الطالب على الذات لتأمين ما يحتاجه من مصاريف، وهو ما يشتّت تركيزه على مساره البحثي. ورغم طرح هذه الإشكالية مرارا إلا أنّ قيمة المنح مازالت على حالها لم تتغيّر؟؟
وفي المقابل تسند منح البحث ومنح التشجيع على البحث التي تسندها الوزارة (وفق الضوابط والشروط الواردة في مقرر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المؤرخ في 27 أكتوبر يتعلق بضبط شروط وطرق إسناد منح البحث ومقاديرها، وفي المنشور الوزاري المؤرخ في 5 ديسمبر 2019 المتعلق بضبط معايير إسناد منحة التشجيع على الإنتاج العلمي إلى الأساتذة والباحثين المنتمين إلى مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، ولئن اقتصرت هذه المنح على الأساتذة والباحثين المباشرين لعملهم صلب مؤسسات التعليم العالي والراجعين بالنظر إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فإنّ هذه الخطوة على أهمّية تظل ذات فاعليّة محدودة إذا تجاوز الرهان الامتيازات التي سيتمتع بها الباحثون ليكون تطوير نشاطات مخابر البحث التونسيّة والإعلاء من مكانتها إقليميّا ودوليّا. هذا إضافة إلى تواصل المظلمة في حق الدكاترة الباحثين المعطلين عن العمل بإبقائهم بين مطرقة البطالة وسندان المناظرات الدورية التي لا تغطي عدد المعطلين عن العمل، ولا تعبّر عن العدد الفعلي للشغورات في مختلف المؤسسات الجامعيّة، وهو ما يطرح أسئلة عديدة، لعلّ أهمّها، هل سيظلّ قدر الدّكاترة الباحثين في تونس البطالة أو التهجير أو البقاء في سجن العقود الهشّة والعرضيّة؟؟ وما قيمة إسناد منح للتشجيع على البحث العلمي إن كان من راهن على البحث العلمي خارج أسوار الجامعة ومخابر البحث؟؟ وعن أي رؤية علميّة نتحدّث حينما يكون هذا واقع الفئة الأكثر عددا وجهدا بحثيّا داخل هياكل البحث وخارجها؟؟
واقع لطالما بيّنت الجمعيّة الوطنيّة لطلبة الدّكتوراه والدّكاترة الباحثين موقفها منه، وطالب ضمن مراسلاتها لسلطة الإشراف بإيجاد حلّ جذريّ لتغييره نحو الأفضل، وقد بيّن المتداخلون في سلسلة الندوات التي عقدتها الجمعيّة تباعا واقع البحث العلمي في تونس من زوايا نظر مختلف ووفق إحصائيات دقيقة، ومع ذلك ما تزال حقوق الدكاترة الباحثين المهنيّة والعلميّة قيد النظر على حساب أعمارهم وطموحاتهم المهنيّة والاجتماعيّة.
IV. توصيّات
- بات جليّا أنّ أزمة البحث العلمي في تونس لا تتوقّف عند تجديد الهياكل وتغيير أعضائها إذا كانت الميزانيّة المخصّصة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ستظل في آخر الترتيب. وهذه مسؤوليّة جميع الفاعلين في التعليم العالي والبحث العلمي من إداريين وأساتذة وطلبة، وعليه يجب أن يقع تشكيل لجنة تضم ممثلين عن مختلف الفاعلين في هذا القطاع تعمل على تحديد حجم الشغورات الفعليّة التي تحتاجها مؤسّسات التعليم العالي بعيدا عن هاجس الميزانيّة المرصودة سنويّا، وتحيد ما تحتاجه المؤسسات الجامعيّة ومخابر البحث من متطلّبات لوجستيّة عاجلة لتطويرها وصيانة مرافقها. ليتمّ لاحقا عرضها ضمن اجتماع وزاري، يتمّ خلاله تدارس السبل الممكنة لتأمين الميزانيّة الكافية لتأمين الموارد البشريّة المطلوبة ولسدّ هذه الاحتياجات. مطلب وإن بدا متعاليا عن الواقع، ولكن لا مجال للحديث عن حلول جديّة وحاسمة إن لم يقع الانطلاق من هذه الخطوات لبلوغ تشخيص دقيق وموضوعي لهذه الأزمة التي ما عادت خفيّة، وتتفاقم يوما بعد يوم. ومن سنة إلى أخرى.
- القطع مع كل أشكال التعاقد الهش والعرضي في صفوف خرّيجي التعليم العالي لما لذلك من أثر معنوي سلبي لا على خرّيجي التعليم العالي بمختلف اختصاصاتهم ودرجاتهم العلميّة فحسب، وإنّما على مئات الآلاف من التلاميذ الذين يراهنون على التعليم لتحقيق طموحاتهم الاجتماعيّة. ولعلّ الخطوة التي اتّخذتها وزارة التربيّة في حق الأساتذة النّواب دليل واضح على أنّ المسألة تتطلب إرادة جديّة ورؤية حاسمة لحلّ معضلة التشغيل الهش على المدى القريب والمتوسّط.
- بات جليّا أنّ العائق المادّي هو ما يجعل ملف الدّكاترة الباحثين المعطّلين عن العمل عالقا بين النصوص التشريعيّة وخطط الانتداب التي عجزت عن تأمنيها كلّ الوزارات المتعاقبة، ذلك أنّ انتداب الدّكاترة الباحثين يتطّلب قرارا جريئا من الدّولة على مستوى الميزانيّة وعلى مستوى فتح خطط الانتداب بالعدد الكافي لاحتواء أزمة البطالة الحالية. ولذلك فمن الواجب الأخلاقي والرمزي لمختلف أسلاك التعليم في تونس أن تتبنى قضيّة الدّكاترة الباحثين المعطّلين عن العمل، دفاعا عن مكانة التعليم وتثمينا للجهد الذي يبذله المعلم والأستاذ مع تلميذه من السنة الأولى وصولا إلى لحظة حصوله على شهادة الدّكتوراه. إنّ اصطفاف جميع أسلاك التربية والتعليم خلف مطلب أصحاب شهادة الدّكتوراه المشروع سيكون حاسما وفاعلا بلا شكّ. وهو مطلب نراه متاحا إذا توفرت إرادة جامعة لتحقيقه، انتصارا لقيمة التعليم ولمكانة المدرسة والمعهد والجامعة في بناء المجتمع وتطويره.