ما يزال مشروع الدولة التونسية في قطاع البحث العلمي مسارا بلا وجهة مدروسة أو استراتيجية مضبوطة تجمع بين الانجاز والتقييم في مختلف القطاعات الحيويّة. ومن المؤسف أن يظلّ الاستثمار في البحث العلمي بالنسبة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي مقتصرا على مسارات التدريس في الجامعات والجهود الفرديّة للأستاذة الجامعيين والدكاترة الباحثين في مختلف المجالات.
وغالبا ما يتصل واقع البحث العلمي فقط بملفات الترقية والانتداب، وهو ما أدّى إلى تفاقم أزمة هذا القطاع في عديد المستويات. يظهر ذلك جليا في إحصائيات ترتيب جامعاتنا على المستوى الإقليمي والدولي، وتفاقم أزمة البطالة في صفوف خريجي الجامعات لتصل إلى صفوف الدكاترة الباحثين في مختلف الاختصاصات. وهو ما يطرح إشكالا عميقا حول مصير البحث العلمي في بلادنا. فكيف وصل واقع البحث العلمي في تونس إلى هذا الوضع الكارثي والمأزوم؟ وأيّ حلول يجب علينا اعتمادها لإنقاذ ما تبقّى من مسار التعليم والبحث العلمي؟
رغم إثبات الباحث التونسي لكفاءته في أزمة كورونا (Covid19) في تجربة استثنائية من البحث والاجتهاد البحثي لدعم الطاقم الطبي، الا ان الدولة تنكرت من جديد للبحث العلمي ولم تتغير نظرتها لأهميته كقاطرة للنمو ورمت الطاقات العلميّة عرض الحائط. ويتجلى ذلك من خلال الميزانيّة المخجلة لقطاع البحث العلمي وعدم السعي الجدي لتطوير هذا القطاع رغم مختلف التحديات التي تواجهها البلاد في كلّ القطاعات والمجالات الحيويّة. ويكفي أن نذكّر بأنّ الميزانية المخصصة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي تتذيل الترتيب وهي في تناقص مستمر منذ سنوات. هذا اضافة الي عديد التجاوزات في الميزانيات المرصودة للبحث العلمي وللمخابر وغياب ترشيد استعمالها على ما فيها من نقص. نتيجة لذلك يعيش قطاع البحث العلمي عديد الاشكاليات مثل غياب بيئة علمية سليمة وغياب الاستقلالية في البحوث العلمية واقتصار البحث العلمي على مجالات محدودة وبإمكانيات متواضعة.
في المقابل يتضاعف اهتمام العالم بالبحث العلمي وتتضاعف متطلبات بلادنا اقتصاديا واجتماعيا وحاجتها الملحّة إلى رؤية مستدامة نحو البحث العلمي كركيزة اقتصادية وكقاطرة للنمو، وتجاه واقع الباحثين التونسيين بمختلف اختصاصاتهم كجنود لرفع راية البلاد عاليا بالعلم والمعرفة.
ولا يخفى على المتابعين لواقع البحث العلمي في بلادنا أنّ عديد المواضيع البحثيّة التي يتم تناولها في مخابرنا لا ترتبط أساسا بمشاكل بلادنا الهيكلية واللوجستيّة وإنّما ترتبط في جلّها بطبيعة المواضيع التي يفرضها التعاون الخارجي ويتم خلالها ايضا استغلال الواقع الهش للدكاترة الباحثين المعطلين عبر تشغيلهم في إطار عقود هشة وقتية وسنوية وبأجور زهيدة جدا. عقود لا تحمي اصحابها ولا تكفل لهم اي شيء.
وتتزايد بذلك أعداد العقود العرضية في مخابر البحث بوضعية هشة مع غياب رؤية اقتصادية واضحة وانتدابات دورية في المخابر بحجّة ضعف الميزانية. اما في حال فتح باب الانتدابات فهي بأعداد ضعيفة جدا وفي إطار مناظرة تتم كل أربع سنوات أو أكثر، والتي تشهد عديد الاخلالات والتجاوزات تؤكده القضايا الموجودة في المحكمة الإدارية وعدد الشكاوى المقدمة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتي لم تبت فيها الي حد الان.
من جهة اخري لا يختلف الواقع التشريعي في مجال البحث العلمي عن واقع مخابر البحث، ولعلّ حرمان حامل شهادة الدكتوراه من مكانته قانونيا، بعدم إدراج شهادته ورتبته في السلم الوظيفي في القطاع العام والوظيفة العمومية وفي الاتفاقيات التي تنظم العمل في القطاع الخاص خير دليل على تعاظم أزمة الدكاترة الباحثين في تونس بعد مسار علمي شاق ومميز يمتلكون اثره الكفاءة و الخبرة ليكونوا فاعلين و ذو قيمة مضافة في كل الوزارات و في القطاع العام و الخاص. هذا اضافة الي أن بلادنا لا تعترف للأسف بالاستثمار في البحث العلمي فلا نجد استثمارا للبحث العلمي في القطاع العام الذي يعتبر قدوة البلاد في كل المجالات خاصة الاقتصادية ولا في القطاع الخاص. فغالبا ما يكون البحث العلمي مصلحة إدارية وقطاعية محدودة الصلاحيات وبإمكانيات لا وزن لها في واقع معولم ورقميّ بامتياز.
وبقي إذا البحث العلمي كغيره من القطاعات قطاعا سمته التبعية للآخر الأوربي أو الآسيوي أو الأمريكي بدل العمل على تطويره وبعث شراكة وتعاون جاد ومدروس بين مختلف مؤسسات الدولة والشركات الخاصة ومخابر البحث التونسية والجامعات التونسية لإيجاد حلول للمشاكل التي تعاني منها كل القطاعات والمؤسسات والجهات.
إذ اننا لا نبالغ حين نعتبر أنّ البحث العلمي في تونس يحتضِر، والمؤشرات عديدة تعبّر عن بلوغه هذه المرحلة، ونذكر منها وضعية المخابر وتصحرها من الباحثين، اضافة الي تضاعف أعداد الكفاءات المهاجرة في اختصاصات حيويّة، وصولا إلى ترتيب الجامعات والمخابر التونسية على المستوى الإقليمي والدولي. ولا ننسي وضعية الدكاترة الباحثين المعطلين الذين لا مستقبل لهم في بلادهم في البحث العلمي بعد عشر سنوات جامعية من التكوين والبحث.
فكيف لا نقول بأنّه يحتضِر؟؟
المفارقة الغريبة هو تفاقم أزمة البطالة رغم حاجة مؤسسات التعليم العالي والمستشفيات وغيرها من الهياكل والمؤسسات الحيوية والوزارات إلى هذه الطاقات العلمية التي وجدت نفسها بين إكراهات الهجرة وقسوة واقع اجتماعي صار فيه التعليم خيارا يؤدي إلى تحطيم مستقبل الشباب بسبب غياب أفق واضح واستراتيجية وطنية تؤمن بدور هؤلاء الباحثين. المؤلم أيضا أنّ طموح الهجرة أصبح الحل الأفضل لدى أغلب كفاءاتنا العلمية – أو لعلّه تهجير قصري – ممّا سيفقد بلادنا المزيد من الخبرات البحثيّة وهدر المزيد من فرص لا لتنمية والتطوير لصالح دول أخرى ومخابر بحث خارجية كثيرا ما نسمع عن نجاحات الدكاترة الباحثين التونسيين فيها.
ومن مفارقات واقع البحث العلمي في تونس احتلالها المرتبة الأولى عالميا في عدد الباحثين وخاصة في صفوف الفتيات، فكم هو مؤلم أن يتوفر لدى آلاف الشباب طموح البحث والتطوير لينتهي بهم المطاف في نهاية مسارهم البحثي بلا صفة تشريعية تكفل لهم الانتداب وبلا ميزانية كافية للاستفادة من إنتاجهم البحثي و بلا واقع اقتصادي يستجيب لزادهم العلمي و المعرفي.
وبذلك يزداد قطاع البحث العلمي في تونس تراجعا وتدهورا، ولا نرى جهودا كفيلة بإعادة الاعتبار لمنزلة الباحث العلمي ما لم يقع تركيز سياسة وطنية جامعة وبمسار مدروس ومتكامل يراعي مختلف الحاجيات العلمية والاجتماعية والاقتصادية. ولا نستبعد مع تواصل المسار على هذا النحو بلوغ مرحلة انهيار المنظومة التربوية برمتها في تونس. فواقع خرّيجي الجامعات في تونس يدفع ضمنيا الأجيال القادمة نحو الانقطاع عن التعليم بما يعايشونه من معاناة الآلاف من الجامعيين المعطّلين عن العمل.
لكن الاصلاح لازال ممكنا ومن أهم التوصيات التي نراها حلاّ جديّا لإنقاذ بلادنا ومنظومة البحث العلمي من واقعها المأزوم من خلال:
- ضرورة فصل البحث العلمي عن وزارة التعليم العالي باعتباره قطاعا يهم كل الوزارات وتخصيص وزارة أو هيكل مستقل يهتم بالبحث العلمي في بلادنا ويرتبط بكل الوزارات وبالقطاعين العام والخاص، مع تخصيص ميزانية واضحة ومهمة للبحث العلمي وتجديد الدراسات الاستراتيجية.
- إصلاح القوانين والتشريعات التي تهتم بالبحث العلمي وجعله ينفتح على كل الوزارات، ومنها إدراج شهادة الدكتوراه في السلم الوظيفي وفي الاتفاقيات التي تنظم العمل في القطاع الخاص وإحداث هياكل للبحث والتجديد وللدراسات الاستراتيجية صلب كل الوزارات والمؤسسات.
- إصلاح قوانين الانتداب والتناظر والترقية وتحديث الآليات المعتمدة عبر رقمنة الإدارات والمخابر والجامعات التونسية في بلادنا ليصبح مسار الانتداب والترقية مواكبا لتطور البحث العلمي وليبتعد عن كل سبل الإخلال والفساد، وسن تشريعات تحدد طرق التعامل بين كل الأطراف المتداخلة وتحد من تفشي ظاهرة الفساد.
- ربط المخابر والجامعات بمؤسسات الدولة وبمندوبياتها الجهوية من أجل الإحاطة بمشاكل البلاد في كل جهة ومجال ولإيجاد حلول علمية تطبق مباشرة، وليكون هناك استثمار جهوي للبحث العلمي فيلامس متطلبات البلاد الحقيقية وتطبق البحوث علي ارض الواقع حسب خصوصيات كلّ جهة وتكن ايضا سبيلا لفتح مواطن شغل.
- تطوير اقتصاد بلادنا ليستجيب لمتطلبات السوق العالمية وليصبح قادرا على الاستثمار في البحث العلمي والانتقال التدريجي نحو الإنتاج بدل الاستيراد. اضافة الي دعم سبل الانفتاح على الاقتصاد العالمي بتشجيع الشركات الخاصة على الاستثمار في البحث العلمي.
- احترام مكانة الدكاترة الباحثين وكل الكفاءات العلميّة على مستوى حقوقهم المعنويّة والمادية لأن الدكتور الباحث يمثل قمّة السلم الاجتماعي في بلادنا على مستوى التحصيل العلمي والتكويني.
- فتح الانتداب للدكاترة الباحثين في مخابر البحث وفي كل الوزارات والقطاعات مع تحسين واقع المخابر التونسية لوجستيا لخلق مناخ علمي محترم قادر على خلق نسق تنافسي على المستوى المحلّي والدولي.
منال السالمي
دكتورة باحثة في الكيمياء التطبيقية ومتحصلة علي ماجستير في الكيمياء الصناعية وماجستير في علم البيانات والتحاليل وهي ايضا مهندسة في الكيمياء التحليلية واستعمال الاجهزة.
البريد الإلكتروني: dr.manel.selmi@gmail.com